الشرق الاوسط يتغيّر بسرعة، ما من أدنى شك بذلك. والدول الاقطاب الثلاث، ايران واسرائيل وتركيا، تندفع كل واحدة منها الى استحواذ المساحة الأكبر من النفوذ في ساحات الصراع.
إيران التي تعمل بعناية فائقة لإتمام الإخراج الافضل لعودتها الى الاتفاق النووي، تسعى الى تثبيت حضورها في اليمن والعراق وسوريا ولبنان اضافة الى فلسطين.
اما اسرائيل، فالاتفاقات الأمنية التي كانت سرّية خلال المراحل الماضية، مع بعض الدول العربية، أضحت علنية ورسمية، كما حصل مع البحرين أخيراً.
وعلى ذمّة موقع «اكسيوس» القريب من السلطات الاسرائيلية، فإنّ قناة التواصل الأمنية والاستخباراتية بين اسرائيل والبحرين موجودة منذ عقدين من الزمن ولكن في إطار سري. اسرائيل تنظر الى المشاكل الأمنية في الخليج على انّها فرصة لتأمين مصالحها، وهي تسعى الى استغلالها من هذا الاتجاه. وتعمل على تصوير نفسها بأنّها القوة القادرة على منع «التهديد» الإيراني. هكذا اغتنمت إسرائيل الهجمات التي نفّذها الحوثيون باتجاه ابو ظبي، ليبلغ رئيس الحكومة الاسرائيلية نفتالي بينيت ولي عهد ابو ظبي محمد بن زايد، استعداد اسرائيل لتقديم المساعدة الدفاعية والاستخباراتية.
وقيل إنّ وفداً ضمّ مسؤولين كباراً في وزارة الدفاع الاسرائيلية، زار بعيداً من الإعلام الإمارات لمناقشة سبل المساعدة، ولا سيما الإنذار المبكر وأنظمة الدفاع الصاروخي الجوي ومواجهة الطائرات من دون طيار. باختصار تعمل اسرائيل على تعزيز حضورها من خلال تعزيز نظام الدفاع الجوي للإمارات. الّا أنّ «الطموح» الاسرائيلي هو أبعد بكثير، والواضح انّ الولايات المتحدة الاميركية تساعدها في ذلك، فالمناورة البحرية المتعددة الجنسيات والتي ضمّت دولاً عربية واسلامية إضافة الى اسرائيل، تعطي الانطباع بالعمل على بدء تركيز حلف ناتو جديد، طابعه شرق اوسطي، ستكون القوة الأبرز فيه اسرائيل. وإذا كان الاتفاق الأمني الاسرائيلي - البحريني والذي أبصر النور، لا بدّ ان يكون قد نال تأييداً ضمنياً سعودياً مسبقاً، فإنّ المناورة البحرية المتعددة الجنسيات والتي شاركت فيها السعودية، تعطي الانطباع بأنّ التطبيع الاسرائيلي - السعودي مسألة وقت ليس اكثر. الواضح انّ هذا الحلف ستكون مهامه الأساسية مواجهة ايران او على الاقل التوازن معها. اما تركيا او القطب الثالث، فهي ستعمل على التمايل بين المعسكرين، رغم فشلها في تحقيق اختراقات واسعة في ساحات الشرق الاوسط، واقتصار حضورها على شمال سوريا والعراق وبشكل محدود.
في المرحلة الحالية، وفي اطار اصطياد الفرص، يسعى الرئيس التركي الى عمل مشترك مع اسرائيل لتأمين نقل الغاز الطبيعي من اسرائيل الى اوروبا، في ظل ازمة اوكرانيا والتلويح الروسي بوقف إمداد اوروبا بالغاز الروسي في عزّ الشتاء. ومن المفترض ان يزور الرئيس الاسرائيلي تركيا قريباً.
فتركيا اختارت التقرّب اكثر في هذه المرحلة من اسرائيل والولايات المتحدة الاميركية، بعدما لمست انّ الرئيس الروسي يعمل على تغيير موازين القوى في اوروبا من خلال طلبه بسحب جميع قوات الناتو من اوروبا الشرقية، إضافة الى حصوله على ضمانات من الدول الاسكندنافية المجاورة، مثل فنلندا والسويد، بعدم الانضمام ابداً الى حلف دول شمال الاطلسي.
لا بل انّ ثمة شكوكاً تدور حول دورٍ ما لتركيا وبالتعاون مع تنظيم «فتح الشام» بزعامة الجولاني، في المساعددة في كشف مكان زعيم تنظيم «داعش» ابو ابراهيم القريشي في ادلب في سوريا، ما مكّن القوات الاميركية من اغتياله.
فالعملية جاءت بمثابة هدية ثمينة للرئيس الاميركي الذي يعاني شعبياً، لا سيما منذ حصول الانسحاب الفوضوي والمذلّ من افغانستان.
في المقابل، قد يكون اردوغان يأمل في ان يستعيد الاقتصاد التركي أنفاسه، وهو الذي يتحضرّ للانتخابات الرئاسية. لكن شطب القريشي من المعادلة لا يعني ابداً إنهاء تنظيم «داعش» الذي اصبح القرار فيه لامركزياً منذ مدة غير قصيرة. وبالتالي، فإنّ «نيران» «داعش» ستبقى موجودة، ولو ضمن اطار محدّد ومدروس لإنضاج المشاريع المطروحة للتسوية، إن في العراق او في سوريا.
اذاً، فإنّ التغييرات ناشطة على قدم وساق في إطار ترتيب المنطقة. وفي الإطار عينه عملت روسيا على إحكام قبضتها على مرفأ اللاذقية، وبالتالي على الساحل السوري، وذلك بعد الغارات التي شنّتها الطائرات الاسرائيلية على المرفأ، والتي جعلت منها روسيا ذريعة لإمساكها بالمرفأ تحت شعار تأمين حمايته، وبعد مباحثات أجراها الرئيس الايراني مع نظيره الروسي في موسكو في اول زيارة خارجية له. فالشاطئ السوري مهم جداً في حسابات الدول، والشاطئ اللبناني قد يكون يفوقه أهمية. فمن المفترض ان يصل الوسيط الاميركي عاموس هوكشتاين الى بيروت هذا الاسبوع، بعدما كان أرجأ موعد زيارته اكثر من مرة. والأرجح انّ الوسيط الاميركي كان يريد مزامنة زيارته مع توقيت اقليمي مناسب. وقد تكون اللحظة باتت اكثر ملاءمة في ظل اقتراب موعد العودة للاتفاق النووي الايراني، ووسط التغييرات المتلاحقة التي تطرأ على الشرق الاوسط.
الوسيط الاميركي كان اعلن سابقاً انّه إذا لم ينجح في التوصل الى اتفاق قبل موعد الانتخابات النيابية فسوف ينهي جهود وساطته. وخلال المرحلة الماضية وإثر تسلّمه الجواب اللبناني، وجد هوكشتاين انّ الجواب واقعي ومعقول. وما يعزز التفاؤل، انّ الوسيط الاميركي وضع الملف اللبناني كأولوية رغم احتدام الوضع في اوكرانيا، والتي تدخل في صلب مهامه كمبعوث لشؤون الطاقة. وخلال الايام الماضية، نقلت اوساط ديبلوماسية معنية عن هوكشتاين قوله، انّه يرى فرصة جدّية للتوصل الى صفقة حول ترسيم الحدود البحرية، وانّه يريد الوصول اليها في اسرع وقت ممكن.
وإذا ما تحقق التفاؤل الذي ينشده هوكشتاين، فهذا معناه انّ التحوّلات الجارية في الشرق الاوسط بدأت تصيب لبنان بدوره. فالترسيم البحري سيليه ترسيم بري مترافقاً مع تفاهمات سياسية جديدة على المستوى الاقليمي والدولي، وسيجري إسقاطها على لبنان. ولكن هذا المسار من المفترض ان ينطلق بعد الانتخابات النيابية، التي لا بدّ ان تحتضن انعطافة وبداية سقوط الطبقة السياسية الحالية. لكن المسار لن يكون سهلاً، لا بل على العكس فالطريق محفوف بالمخاطر.
وخلال زيارته للبنان قال وزير خارجية الفاتيكان بكل صراحة ووضوح، انّ التغيير آتٍ. لكنه أرفق ذلك بخشيته من ألّا يكون مستقبل هذا الوطن مضموناً. وقلقه نابع من الأنانية التي يتصرف بها اطراف الطبقة السياسية اللبنانية. وهو جاهر بقوله هذا بعد ان كان رأس الكنيسة الكاثوليكية نفسه قد ردّده مرات عدة.
هي مرحلة التغييرات الكبرى والتي بدأت في الشرق الاوسط وستشمل لبنان، ولكن مع وجود طبقة سياسية، لا تبحث سوى عن مصالحها الذاتية الضيّقة على حساب المصلحة العامة.